سورة إبراهيم - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


ولما ذكرهم بنعمة الأمن رغبهم فيما يزيدها، ورهبهم مما يزيلها فقال: {وإذ} أي واذكروا إذ {تأذن ربكم} أي أعلم المحسن إليكم إعلاماً بليغاً ينتفي عنه الشكوك قائلاً: {لئن شكرتم} وأكده لما للأنفس من التكذيب بمثل ذلك لأعتقادها أن الزيادة بالسعي في الرزق والنقص بالتهاون فيه {لأزيدنكم} من نعمي، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود إن عطائي لعتيد فأرجوه {ولئن كفرتم} النعمة فلم تقيدوها بالشكر لأنقصنكم ولأعذبنكم {إن عذابي} بإزالتها وغيرها {لشديد} فخافوه، فالآية- كما ترى- من الاحتباك.
ولما كان من حث على شيء وأثاب عليه أو نهى عنه وعاقب على فعله يكون لغرض له، بين أن الله سبحانه متعال عن أن يلحقه ضر أو نفع، وأن ضر ذلك ونفعه خاص بالعبد فقال تعالى حاكياً عنه: {وقال موسى} مرهباً لهم معلماً أن وبال الكفران خاص بصاحبه {إن تكفروا} والكفر: تضييع حق النعمة بجحدها أو ما يقوم في العظم مقامه {أنتم ومن في الأرض} وأكد بقوله: {جميعاً} فضرره لاحق بكم خاصة غير عائد على الله شيء منه {فإن الله} أي الملك الأعظم {لغني} أي في ذاته وصفاته عن كل أحد، والغنى هنا المختص بما ينفي لحاق الضرر أو النقص، والمختص بأنه قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، وذلك بنفسه لا بشيء سواه، ومن لم يكن كذلك لم يكن غنياً {حميد} أي بليغ الاستحقاق للحمد بما له من عظيم النعم وبما له من صفات الكمال، وكل مخلوق يحمده بذاته وأفعاله وجميع أقواله كائنة ما كانت، لأن إيجاده لها ناطق بحمده سبحانه.
ذكر التأذن بذلك المذكر به من التوراة:
قال في السفر الخامس: واختاركم الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً من جميع الشعوب التي على وجه الأرض، وليس لأنكم أكثر من جميع الشعوب أحبكم الرب واختاركم، ولكن ليثبت الأيمان التي أقسم لآبائكم، لذلك أخرجكم الرب بيد منيعة، وأنقذكم من العبودية، وخلصكم من يدي فرعون ملك مصر، لتعلموا أن الله ربكم هو إله الحق، إله مهيمن يحفظ النعمة والعهد لأوليائه الذين يحفظون وصيته لألف حقب، ويكافئ شنأته في حياتهم ويجزيهم بالهلاك والتلف، احفظوا السنن والأحكام والوصايا التي آمركم بها اليوم فافعلوها يحفظ الله الرب العهد والنعمة التي أقسم لآبائكم، ويحبكم ويبارك عليكم ويكثركم، ويبارك في أولادكم وفي ثمرة أرضكم وفي بركم وخبزكم وزيتكم، وفي أقطاع بقركم وجفرات غنمكم، وتكونوا مباركين من جميع الشعوب، ولا يكون فيكم عاقر ولا عقيم ولا في بهائمكم، ويصرف الله عنكم كل وجع، وجميع الضربات التي أنزل الله بأهل مصر- كما تعلمون- لا ينزلها بكم بل ينزلها بجميع شنأتكم، وتأكلون جميع خيرات الشعوب التي يعطيكم الله ربكم، ولا تشفق أعينكم عليهم، ولا تعبدوا آلهتهم لأنهم فخاخ لكم، وإن قلتم في قلوبكم: إن هذه الشعوب أكثر منا فكيف نقدر أن نهلكها! فلا تفرقوا منها ولكن اذكروا جميع ما صنع الله ربكم بفرعون ملك مصر وكل أصحابه، والبلايا العظيمة التي رأيتم بأعينكم، والآيات والأعاجيب واليد المنيعة والذراع العظيمة، وكيف أخرجكم الله ربكم! كذلك يفعل الله ربكم بجميع الشعوب التي تخافونها.
ويسلط الله ربكم عليهم عاهات حتى يهلكهم، والذين يبقون ويختفون منكم لا تخافوهم لأن الله ربكم بينكم. الإله العظيم المرهوب، فيهلك الله ربكم هذه الشعوب من بين أيديكم رويداً رويداً، لأنكم لا تقوون أن تهلكوهم سريعاً لئلا يكثر السباع، ولكن يدفعهم الله ربكم إليكم وتضربونهم ضربة شديدة حتى تهلكوهم، ويدفع ملوكهم في أيديكم وتهلكون أسماءهم من تحت السماء، لا يقدر أحد أن يقوم بين أيديكم حتى تهلكوهم وتحرقوا آلهتهم المنحوتة بالنار، ولا تشتهوا الفضة والذهب الذي عليها وتأخذوه منها لئلا تتنجسوا بها، لأنها مرذولة عند الله ربكم، فلا تدخلوا نجاسة إلى بيوتكم لئلا تكونوا منفيين مثلها، ولكن أرذلوها ونجسوها وصيروها نفاية بخسة لأنها حرام. ثم قال: انظروا! إني أتلو عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم، وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم- وقد مضى كثير من أمثال هذا عن التوراة، ولا ريب في أن هذا الترغيب والترهيب والتذكير للتحذير كما أنه كان لبني إسرائيل، فهو لكل من سمعه من المكلفين.
ولما حذرهم انتقام الله إن كفروا، ذكرهم أيامه في الأمم الماضية، وعين منهم الثلاثة الأولى لأنهم كانوا أشدهم أبداناً، وأكثرهم أعواناً، وأقواهم آثاراً، وأطولهم أعماراً، لأن البطش إذا برز إلى الوجود كان أهول، لأن النفس للمحسوس أقبل، فقال دالاً على ما أرشدهم إليه من غناه سبحانه وحمده مخوفاً لهم من سطوات الله سبحانه: {ألم يأتكم} أي يا بني إسرائيل {نبأ الذين} ولما كان المراد قوماً مخصوصين لم يستغرقوا الزمان قال: {من قبلكم} ثم أبدل منهم فقال: {قوم} أي نبأ قوم {نوح} وكانوا ملء الأرض {و} نبأ {عاد} وكانوا أشد الناس أبداناً وأثبتهم جناناً {و} نبأ {ثمود} وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور {و} نبأ {الذين} ولما كان المراد البعض، أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي في الزمن حال كونهم في الكثرة بحيث {لا يعلمهم} أي حق العلم على التفصيل {إلا الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، كفروا فأهلكهم الله ولم يزل غنياً حميداً عند أخذهم وبعده كما كان قبله، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون.
ثم فصل سبحانه خبرهم، فقال- جواباً لمن كأنه قال: ما كان نبأهم؟ {جاءتهم رسلهم بالبينات} وترك عطفه لشدة التباسه بالمستفهم عنه {فردوا} أي الأمم عقب مجيء الرسل من غير تأمل جامعين في تكذيبهم بين الفعل والقول {أيديهم في أفواههم} وهو أشارة إلى السكوت عن ذلك والتسكيت، كأنه لا يليق أن يتفوه ولو على سبيل الرد؛ قال الرازي في اللوامع: حكى أبو عبيد: كلمته في حاجتي فرد يده في فيه- إذا سكت ولم يجب. {و} بعد أن فعلوا ذلك لهذه الأغراض الفاسدة {قالوا} أي الأمم {إنا كفرنا} أي غطينا مرائي عقولنا مستهينين {بما} ولما كان رد الرسالة جامعاً للكفر، وكانوا غير مسلّمين أن المرسل لهم هو الله، بنوا للمفعول قولهم: {أرسلتم به} أي لأنكم لم تأتونا بما يوجب الظن فضلاً عن القطع، فلذا لا يحتاج رده إلى تأمل.
ولما كان ما أتى به الرسل يوجب القطع بما يعلمه كل أحد، فكانوا بما قالوه في مظنة الإنكار، أكدوا: {وإنا لفي شك} أي محيط بنا، وهو وقوف بين الضدين من غير ترجيح أحدهما، يتعاقب على حال الذكر ويضاد العلم والجهل.
ولما كان الدعاء مسنداً إلى جماعة الرسل، أثبت نون الرفع مع ضمير المتكلمين بخلاف ما مضى في هود، فقالوا {مما} أي شيء {تدعوننا} أيها الرسل {إليه} أي من الدين {مريب} أي موجب للتهمة وموقع في الشك والاضطراب والفزع، من أراب الرجل: صار ذا ريبة أي قلق وتزلزل.


ولما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد، وكان الشاك فيه شاكاً في الله، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكّم عقله مجرداً عن الهوى، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله: {قالت رسلهم} ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب، أنكروا أن يكون فيه شك، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا: {أفي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {شك}.
ولما كان الجواب عاماً لا يخص ناساً دون ناس، لم يأت بصلة فقال بخلاف قوله: {إن نحن إلا بشر} ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم: {فاطر السماوات} ولما كان المقام لادعاء أنه في غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيد بإعادة العامل، فقال: {والأرض} أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال، الجميل العوائد، والمتسق الفصول؛ فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم، إنه لا يأباها من له أدنى بصيرة، فقالوا: {يدعوكم} أي على ألسنتنا {ليغفر لكم}.
ولما كان الكافر إنما يدعى أولاً إلى الإيمان، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم، قال: {من ذنوبكم} ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلاً {و} لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم، بل {يؤخركم} وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم {إلى أجل مسمى} عنده سبق علمه به، وهو آجالكم على حسب التفريق، ولا يستأصلكم بالعذاب في آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم.
فلما بين لهم الأصيل بدليله فروع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى أن {قالوا} عناداً {إن} أي ما {أنتم} أي أيها الرسل {إلا بشر} وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا: {مثلنا} يريدون: فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا؟ ثم كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ فقالوا: {تريدون أن تصدونا} أي تلفتونا وتصرفونا {عما كان} أي كوناً هو كالجبلة، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا: {يعبد آباؤنا} أي أنكم- لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد- حسدتمونا على اتباع الآباء وقصدتم تركنا له لنكون لكم تبعاً {فأتونا} أي فتسبب- عن كوننا لم نر لكم فضلاً وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعاً- أن نقول لكم: ائتونا لنتيعكم {بسلطان مبين} أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائناً ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا به، فكأنه قيل: فما كان جواب الرسل؟ فقيل: {قالت}.
ولما أرادوا تخصيصهم برد ما قالوا، قيد بقوله: {لهم رسلهم} مسلمين أول كلامهم غير فاعلين فعلهم في الحيدة عن الجواب {إن} أي ما {نحن إلا بشر مثلكم} ما لنا عليكم فضل بما يقتضيه ذواتنا غير أن التماثل في البشرية لا يمنع اختصاص بعض البشر عن بعض بفضائل؛ والمثل: ما يسد مسد غيره حتى لو شاهده مشاهد ثم شاهد الآخر لم يقع فصل {ولكن الله} أي الذي له الأمر كله فضلنا عليكم لأنه {يمن على من يشاء} أي أن يمن عليه {من عباده} رحمة منه له، بأن يفضله على أمثاله بما يقسمه له من المزايا كما أنتم به عارفون، فلم يصرحوا بما تميزوا به من وصف النبوة، ولم يخصوا أنفسهم بمنّ الله بل أدرجوها في عموم من شاء الله، كل ذلك تواضعاً منهم واعترافاً بالعبودية؛ والمن: نفع يقطع به عن بؤس، وأصله القطع، ومنه {غير منون}، والمنة قاطعة عن الدنيا.
ولما بينوا وجه المفارقة، عطفوا عليه بيان العذر فيما طلبوه منهم فقالوا: {وما} أي فما كان لنا أن نتفضل عليكم بشيء من الأشياء لم يؤذن لنا فيه، وما {كان} أي صح واستقام {لنا أن نأتيكم بسلطان} مما تقترحونه تعنتاً، وهو البرهان الذي يتسلط به على إبطال مذهب المخالف للحق غير المعجزة التي يثبت بها النبوة {إلا بإذن الله} أي بإطلاق الملك الأعظم وتسويفه، فنحن نتوكل على الله في أمركم إن أذن لنا في الإتيان بسلطان أو لم يأذن وافقتم أو خالفتم {وعلى الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه وحده {فليتوكل} أي بأمر حتم {المؤمنون} فكيف بالأنبياء؛ ثم بينوا سبب وجوب التوكل بقولهم: {وما} أي وأي شيء {لنا} في {ألاّ نتوكل على الله} أي ذي الجلال والإكرام {و} الحال أنه {قد هدانا سبلنا} فبين لنا كل ما نأتي وما نذر، فلا محيص لنا عن شيء من ذلك، فلنفعلن جميع أوامره، ولننتهين عن جميع مناهيه {ولنصبرن} أكدوا لإنكار أن يصبر الرسول- مع وحدته- على أذاهم مع كثرتهم وقوتهم {على ما} وعبر بالماضي إشارة إلى أنهم عفوا عن أذاهم في الماضي فلا يجازونهم به، فهو استجلاب إلى توبة أولئك المؤذين، وعدلوا عن المضارع لأنهم ينتظرون أمر الله في الاستقبال فقد يأمرهم بالصبر، فقال: {آذيتمونا} أي في ذلك الذي أمرنا به كائناً فيه ما كان لأنا توكلنا على الله ونحن لا نتهمه في قضائه {وعلى الله} أي الذي له جميع صفات الكمال وحده {فليتوكل المتوكلون} الذين علموا من أنفسهم العجز سواء كانوا مؤمنين أو لا، فوكلوا أمراً من أمورهم إلى غيرهم ليكفيهم إياه، فإنه محيط العلم كامل القدرة، وكل من عداه عاجز، والصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات المطلق من الكرب، والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً وإن طال الابتلاء.


ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال: {وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم: والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين: {لنخرجنكم من أرضنا} أي التي لنا الآن الغلبة عليها {أو لتعودن في ملتنا} بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل {جعلوا أصابعهم في آذانهم} [نوح: 7] وهو مجاز مرسل، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله {فأوحى إليهم} أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك {ربهم} المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم، وأكد لما- لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم- من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً، قائلاً: {لنهلكن} بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك: إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس {الظالمين} أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم {ولنسكننكم} أي دونهم {الأرض} أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال: {من بعدهم} بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل: هل ذلك خاص بهم؟ فقيل: لا، بل {ذلك} أي الأمر العالي المرام {لمن خاف مقامي} أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه: ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من: خافني، {وخاف وعيد} لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى {واستفتحوا} على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا {وخاب كل جبار عنيد} فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد: الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية: طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر، وعبر عن غفلته عنه بقوله: {من ورائه جهنم} أي لا بد أنه يتبوأها.
ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله: {ويسقى} أي فيها {من ماء صديد} وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم {يتجرعه} أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله {ولا يكاد يسيغه} ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس {ويأتيه الموت} أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات {من كل مكان} والمكان: جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته {وما هو بميت} أي بثابت له الموت أصلاً.
لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموت: عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية {ومن ورائه} أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله {عذاب غليظ} يأخذه في ذلك اليوم- مع ما قدمته له في الدنيا- وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ. فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال: {مثل} وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة {الذين كفروا} مستهينين {بربهم} مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً.
ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما مثلهم؟ فقال: {أعمالهم} أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً- كما قال الحوفي وابن عطية. وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة {كرماد} وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار {اشتدت به الريح} أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح: جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس: شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء {في يوم عاصف} أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث {لا يقدرون} أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله: {مما كسبوا} في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم {على شيء} بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل {ذلك} أي الأمر الشديد الشناعة {هو} أي خاصة {الضلال البعيد} الذي لا يقدر صاحبه على تداركه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6